نهرتني زوجتي بعد أن بذلت جهدا كبيرا في إيقاظي قائلة : الساعة العاشرة الآن ....تثاءبت وفتحت عيني بصعوبة بالغة .....قالت: اليوم أول يوم في رمضان هل ستبدأ بالتكاسل من الآن .....هيا تحرك ثم ناولتني قائمة الحاجيات المطلوبة ....عليك التسوق لا أريد أن أتأخر في الطبخ .....الوقوف في المطبخ بمثابة التعذيب الذي لا يحتمل ....قمت من فراشي متثاقلا ...ارتديت ملابسي وخرجت من البيت وأنا أخطط .....سأذهب إلى سوق باب سريجة للتسوق هناك .....مجرد تذكر كلمة باب سريجة حملتني إلى عالم الخيال ....بدأت مشاهد السوق تتراءى في مخيلتي .....منظر بائعي الخضار وهم يصففون بضائعهم بشكل هرمي متناسق دقيق وجميل .... للخضار رائحة ذكية تحمل معرفة كاملة للمذاق واللون والشكل......للخضار بريق ولمعان لن تراه إلا في دمشق وأسواقها الشعبية ....بائعو المخلل ينسقون منتجاتهم المتنوعة فتحار أي نوع من الخضار غفل عنه هذا الفنان فلم يصنع منه المخلل ....بائعو الزيتون بأنواعه التي تكاد ألا تحصى ....والجبن وأنواعه وأشكاله الكثيرة والشهية باللون والطعم والرائحة .... بائعو ( النهش ) بطبقات رقائق العجين المقمّرة والتي تخفي في طياتها طبقات القشطة الدسمة ودموع القطر السائل عليهما .... بائعو عرق السوس والعصائر التي ترتبط بروحانية رمضان ....... ونداء الباعة ....موسيقى تراثية لن تسمع مثيلا لها إلا هناك ....ولو قدر لبيتهوفن أن يمر من باب سريجة لألف سيمفونية أنست من يحب سماع موسيقاه ما ألّف وعزف..... فجأة تسمرت قدماي ....وإذا بي أمام بوابة ضخمة لمول كبير حديث المبنى والشكل والمحتوى .....تذكرت الآن ....أنا لست في دمشق ....وباب سريجة بعيدة جدا عني .....حملتني قدماي في اللاوعي لهذا المول الذي اعتدت أن أشتري منه حوائجي ....دخلت المول وأنا أبحث عن نكهة رمضان.....عن بهجة رمضان .....عن روحانية رمضان ....سحبت عربة التسوق وبدأت أتجول في الأقسام .....في المكان رائحة حاذقة بفعل شدة التكييف .... رطوبة ممتزجة بروائح الخضار التي كادت أن تفسد ...لم يكن للخضار رائحة ولا بريق وكما عرفتها سابقا بلا مذاق .... للجبن في المول أنواع كثيرة تشبه في مجملها كتل البلاستيك المنمقة ....وما تبقى كله معلبات ترسل بين الفينة والأخرى رائحة معدن يعاند الصدأ ......بقية الأقسام رائحتها كرائحة الورق المطبوع حديثا الذي كنا نشتمه كلما اشترينا كتابا جديدا أو مجلة صدرت حديثا ..... كل شيء معلب وكل الكتابات أعجمية .... وكل الروائح بلا ذاكرة .... أدور بين الأرفف باحثا عن أي شيء يذكرني بنكهة رمضان .....كنت أبحث في كل مكان عن رمضان ....وفي الحقيقة كنت أبحث في كل مكان عن دمشق